تعد فرنسا، إلى جانب كونها القوة الاقتصادية الخامسة عالميًا، وبلد الفن والثقافة، والقبلة المفضلة للسائحين، من أوائل الدول المستقبلة للطلاب الأجانب؛ حيث توافد عليها ما يربو عن 250 ألف طالب في عام 2005.
فرنسا بلد لا يمكن تجاهله نظرًا إلى مناظرها الطبيعية الخلابة وتاريخها الثري ونمط الحياة فيها ذي الصيت الذائع والمعارف في ثقافتها.ولكن الطلاب الأجانب لا يختارون بلدنا فقط من أجل الفن والأدب والعلوم الإنسانية*. ولا يرجع هذا الانجذاب إلى الأمس القريب.
ففي عام 1996، تلقى كفين، وهو طالب بريطاني يدرس الإدارة المالية، ثلاث دورات مكثفة، مدة كل منها ثلاثة أشهر، في تخصص الإدارة بالمدرسة الوطنية للكباري والطرق Ecole nationale des ponts et chaussées: "إن العيش والدراسة في باريس هو أمر يعد حقًا فرصة حقيقية". أما عمر، وهو طالب متخصص في الكيمياء، فلايزال يحظى بالمنحة الدراسية التي حصل عليها من أجل إعداد رسالة الدكتوراة في باريس... وخلال السنوات القليلة الماضية، تزايدت نسبة الطلاب الأجانب الملتحقين بمعهد باريس للدراسات السياسية من 18 إلى 30%. ويرغب 70% من الطلاب الأجانب الوافدين إلى فرنسا لأغراض الدراسة أن يستمروا في الإقامة في بلدنا حتى نيل الشهادات العليا.
رغبة في التميز
إن الدراسة في فرنسا هي، إذن، حلم يراود الكثيرين، حلم يمتزج برغبة ما لدى الطلاب لتحقيق التميز. ويؤكد هذا الأمر السيد فوميهيكو يامادا، مدير القسم الثقافي والإعلامي بسفارة اليابان في باريس؛ حيث قام أخيرًا بتأليف كتاب موجه إلى الشباب اليابانيين يشهد فيه على جودة وتميز التعليم في فرنسا (انظر الحوار). كما يشهد أيضًا على هذا الأمر الطلاب الأجانب الذين بلغ عددهم 250 ألفًا الذين توافدوا على فرنسا في عام 2005 لاستكمال دراستهم، وهو رقم يمكن فرنسا من شغل المرتبة الثالثة في قائمة الدول المستقبلة للطلاب الأجانب. إن التعليم الفرنسي، الذي يعد من بين النظم التعليمية الأكثر تنوعًا وأداًء على المستوى العالمي، يقدم عروضًا مذهلة. فإلى جانب العديد من الأبنية التعليمية المتخصصة، ومنها مدارس الفن والموضة والتصميم المعماري الداخلي والخارجي والدراسات الطبية والطب الموازي، تضم فرنسا ما يزيد عن 3500 منشأة تعليمية، منها 87 جامعة وما يقرب من 500 مدرسة عليا-240 مدرسة هندسة و230 مدرسة تجارة و4 مدارس معلمين عليا (تقدم تأهيلًا ثقافيًا وعلميًا رفيع المستوى).
وإذا كانت الجامعة الفرنسية تقدم، بالإضافة إلى ذلك، مجموعة متنوعة من الدراسات الرفيعة المستوى، فالالتحاق بها أيضًا يعد شبه مجان للجميع على حد سواء، دون أية تفرقة. وهذا أمر قد لا يكون له مثيل في بلدان أخرى. فرسوم التسجيل في الجامعات الفرنسية أكثر من تنافسية: ومثال على ذلك: تصل مصروفات الالتحاق بالليسانس إلى 350 يورو سنويًا، مقابل 400 يورو للالتحاق بالماستر. وتجدر الإشارة إلى أن هذه المصروفات تشمل التأمين الاجتماعي.
المساواة في المعاملة
وإذا ما كانت المصروفات الدراسية منخفضة القيمة مقارنة بالجامعات الإنجليزية والأمريكية أو الأسترالية، فهذا الأمر يرجع إلى أن الدولة الفرنسية تعتبر أن المال يجب ألا يشكل عائقًا ألبتة أمام تعلم المعارف المختلفة. ومن هذا المنطلق، تقدم الدولة دعمًا كبيرًا لاستقبال الطلبة الأجانب-يصل قوامه إلى ملياري يورو- وتساويهم بالطلبة الفرنسيين فيما يتعلق بالحقوق الخاصة - على سبيل المثال - بالمنح الدراسية وتمنحهم الشهادات ذاتها، وهذا أمر لا نجده كثيرًا في بقية أنحاء العالم.
وفيما يتعلق بالشهادات التي تمنحها الجامعات الفرنسية، فقد أطلقت فرنسا، منذ عام 1997، عملية واسعة لتحقيق انسجام في البرامج الدراسية على المستوى الأوروبي، وهي عملية توشك اليوم على الانتهاء. فقد أدرجت بالفعل كل الجامعات الفرنسية تقريبًا المستويات الأوروبية الثلاثة الخاصة بالبرامج الدراسية، وهي شهادات الليسانس والماستر والدكتوراة (LMD).
أما "الحاجز اللغوي"، فقد تضاءلت أهميته بقدر كبير؛ حيث هناك ما يربو عن 300 كلية في الجامعات الفرنسية تقدم تأهيلًا باللغة الإنجليزية، موزعة في جميع أنحاء البلاد. وإن نجد في فرنسا بعض المدن الجامعية المخصصة لإقامة الطلاب، فإنها لا تنتمي إلى النمط التقليدي الفرنسي المطبق فقط في الجامعات القديمة القائمة في قلب المدن الفرنسية الكبرى. وفي الأحوال كافة، هناك مساعدات مالية مخصصة لتسكين الطلاب.
مبادرات جديدة
ي نهاية عام 2005، قامت السلطات العامة بعملية تجديد واسعة للجامعات الفرنسية (انظر الإطار) ونفذت برنامجًا خاصًا بإنشاء مدن جامعية كبيرة ومراكز للبحث والتعليم العالي. وقد وصلت كلفة هذه العملية إلى حوالي 24 مليار يورو. وأولى هذه المدن الجامعية التي سترى النور في نهاية عام 2006 على موقع القطب الاقتصادي في Jourdan (بالعاصمة)، ستكون مدرسة الاقتصاد التابعة لباريس. وسيحظى هذا الحرم الجامعي، الذي يحاكي التصميم المعماري لمدرسة لندن للاقتصاد، بمنحه قوامها 10 ملايين يورو.
هذه هي أسباب نجاح رئيسية، تحملها فرنسا، التي ظلت متوارية لسنوات طويلة في إطار المنافسة الدولية، عندما تسعى لتدعيم عروضها التعليمية في أنحاء متفرقة من العالم: في الصين وفي بيرو وفي تايلاند وفي روسيا وفي المكسيك وفي الأرجنتين وفي الولايات المتحدة وفي كندا.
N. Tavernier/REA
"في عام 1977، عندما كنت طالباً في السنة الرابعة بكلية الحقوق، وكان عمري وقتها 22 عامًا، كنت أبحث عن معلومات تدلني على كيفية الذهاب إلى فرنسا بغرض الدراسة. نجحت في الحصول على منحة دراسية، وتم قبولي في السنة الثانية بمعهد الدراسات السياسية بستراسبورغ. وبعد ثلاث سنوات من تعلم اللغة الفرنسية بالمعهد الفرنسي-الياباني وبالجامعة، استطعت أن أفهم جيدًا المفاهيم والمصطلحات المعقدة وأن أطالع الصحافة. وخلال هذه الفترة من إقامتي في فرنسا، قابلت اثنين من الدبلوماسيين اليابانيين اللذين كانا يتلقان محاضرات في كلية العلوم السياسية واللذين أعلماني بوجود اختبارات للالتحاق بالسلك الدبلوماسي. ونجحت في الانخراط في العمل الدبلوماسي في عام 1980، وأُلحقت بالبعثة العامة للشؤون الاقتصادية، ثم تلقيت تأهيلًا بالمدرسة الوطنية للإدارة بباريس (ENA) على مدى عامين".
أهم ما تعلمته وحظي بتقديري عندما كنت طالبًا في فرنسا هو المنهج الفكري.
"كل بلد له منهجه الخاص في التفكير والمناقشة وشرح الأمور... ولكن المنهج الفرنسي هو حقًا فريدًا من نوعه. يقال إن الفرنسيين يتبعون منهج التفكير العقلي لديكارت. وتُطلق هذه النظرية كنوع من اللوم للفرنسيين. لكن على العكس من ذلك، يتحلى الفرنسيون بنظرة متوازنة إلى الأمور، ولقد استطاعوا أن يتطوروا كثيرًا على مدى 25 عامًا الماضية، وهم أخيرًا أكثر قربًا من الواقع والحقائق، حتى لو كانوا أقل برجماتية من الإنجليز. إن أكثر ما أدهشني هو الفضول الفكري لدى الفرنسيين، وما زلت مندهشًا من هذا الأمر. وتحتل الأخبار العالمية العناوين الرئيسية في الصحافة الفرنسية منذ وقت طويل، في الوقت الذي تُعطى الأولوية، في العديد من الدول الأخرى، للأخبار المحلية. كما يقال أيضًا إن الفرنسيين منغلقون على أنفسهم. ولكني لا أعتقد ذلك لأن الشغف الفكري الذي يتحلوْن به أقوى من أية رغبة للتقوقع على الذات".
المعرفة الفرنسية يمكن أن تكون مرجعًا
"لأن هذه المعرفة يمكن أن تشكل نقطة توازن للقوى المتناقضة من الناحية الظاهرية. فمن خلال المنهج الفرنسي، يمكن أن نتعلم أن نفكر بطريقة أيسر، بل أن نجد حلولًا للمشكلات أيضًا. غير أن المرء يصبح مفكرًا أصيلًا يتحلى بنظرة فريدة من نوعها إذا ما اتبع المنهج الفرنسي، ويصبح أيضًا أكثر فاعلية في قطاعات مهمة للغاية بعينها، ويضحى رائدًا في المجال النووي والطيران... إن فرنسا تستطيع على نحو أفضل من غيرها أن تحقق التوازن، حتى في ظل نواقصها الفكرية. وبالطريقة ذاتها، نجح المنهج التعليمي الفرنسي بصورة قوية في أن يخلق صفوة من المفكرين والمبدعين في المجالات كافة، صفوة ظلت، على الرغم من تأثرها بالمنهج الفرنسي، منسجمة مع المجتمع".
ماذا الذي يمكن أن أنصح به طالبًا أجنبيًا وافدًا إلى فرنسا؟
"لقد وضعت كتابًا باللغة اليابانية موجهًا إلى الطلاب الشباب في بلدي؛ بغرض أن أكشف لهم نظرتي إلى فرنسا وكذلك القدرة الدبلوماسية لهذا البلد؛ لكي أشرح لهم ما الأسباب التي تجعل من الدبلوماسية الفرنسية دبلوماسيًة مستقلة وكيفية حدوث هذا الأمر. وإنني أسعى بذلك إلى أن أخفف من وطأة شغفهم بالثقافة الأنجلو-ساكسونية. إني أقول لهؤلاء الشباب: اذهبوا إلى دول أخرى، وتعرفوا على نمط عيشتها وكيفية تفكيرها. فلماذا إذن يتعلم المرء؟ أليس لفهم العالم والمجتمع وللعيش وأداء عمله على نحو أفضل؟ إن الغرض من التعليم هو أن يتفهم المرء جيدًا أن التخصص الذي يدرسه ما هو إلا بداية الطريق".
نقله عادل صيام
mercredi 10 mars 2010
Inscription à :
Publier les commentaires (Atom)
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire